Tuesday, February 20, 2007

خارج الموضوع



خارج الموضوع
بقلم: فهمي هويدي
أثناء الجدل الصاخب الذي يدور حول الشأن الداخلي المصري منذ بداية العام، ارتكب عدد غير قليل من المثقفين والإعلاميين خطيئتين، أولاهما أنهم شغلوا الناس بهواجس السلطة وأطروحاتها، وتجاهلوا مشكلات المجتمع الملحة. ثانيتهما أنهم حين انخرطوا في هجاء الاخوان، فإن سهامهم تجاوزت الحدود حتى جرحت الإسلام ذاته.(1) ذات مساء اتصل بي هاتفياً أحد الجيران، ممن يتصورن أن الصحافيين يعرفون ما لا يعرفه الآخرون، وسألني: ماذا يعني مصطلح المجتمع المدني؟ أدركت لأول وهلة أن الأمر التبس عليه، لأننى اعرف انه مهندس مدني، وقبل أن اجيب استطرد قائلاً أنه سمع مذيع التلفزيون يستهل برنامجه قائلاً بوقار شديد: إن المجتمع المدني هو حلم كل مواطن مصري، ومضى يشرح خطورة فكرته، مشدداً على أنه بغير مجتمع مدني فإن مصر لن تقوم لها قائمة، وسترجع قروناً إلى الوراء.أضاف محدثي الذي لم يتح لي فرصة الرد أو التعقيب، قوله إن المذيع كذاب، وإنه هو وأسرته واصدقاءه يحلمون بأشياء مختلفة تماماً، تتراوح بين مواجهة الارتفاع المستمر في أسعار السلع الضرورية، وبين أعباء الدروس الخصوصية، التي فرضت على أسرته حالة من التقشف لم يعرفها طيلة الثلاثين عاماً الماضية.ثم انهى كلامه قائلاً إن حلقة البرنامج الذي استفزه مازالت معروضة على شاشة التلفزيون، وإنه شخصياً تحول إلى قناة أخرى تريح أعصابه ولا توترها.دفعنى الفضول إلى متابعة الحلقة، فوجدت أن البرنامج شارك فيه عدد من المثقفين، الذين تناوبوا الحديث عن خطر الدولة الدينية، ورفض المرجعية الدينية، وأهمية اصدار قانون لمكافحة الإرهاب، والحذر من الفراغ الذي يمكن أن ينشأ إذا ما ألغي قانون الطوارئ قبل اصدار قانون الإرهاب.كان واضحاً أن الحلقة مخصصة اصلاً لمناقشة التعديلات التي اقترح الرئيس مبارك ادخالها على الدستور المصري، لأن المذيع سأل أحد المثقفين المشاركين عن رأيه في التعديل المقترح للمادة 76 الخاصة بشروط الترشيح لرئاسة الجمهورية، ووعد في نهاية البرنامج باستكمال مناقشة بقية التعديلات في حلقة قادمة (بعدما داهمنا الوقت).لم يكن البرنامج استثنائياً، ولكنه كان من اصداء حملة التعبئة والحشد التي تبنتها وسائل الإعلام المصرية طيلة الأسابيع التي خلت، في التلفزيون والإذاعة والصحف القومية بوجه أخص حتى بات قارئ صحف الصباح يستقبل كل يوم سيلاً من التحليلات والتعليقات التي تدور حول المحاور ذاتها، سواء التعديلات التي اقترحها الرئيس مبارك على الدستور، أو الإجراءات التالية التي اتخذتها السلطة لتوفير الظروف المواتية لتمريرها.(2) ظلت ملاحظة جاري تلاحقني طوال الوقت، الأمر الذي دفعني إلى المقارنة بين خطاب المثقفين والإعلاميين، وبين هموم الناس التي يعبرون عنها، فيما أتلقاه من رسائل يرتفع فيها صوت الأنين والشكوى حيناً بعد حين. لم أكن بحاجة إلى من ينبهني إلى أن القضايا الكبيرة التي يتحدث عنها المثقفون قد يكون بعضها مهماً حقاً لحياة الناس ومصائرهم، وفكرة المجتمع المدني نموذج لذلك، إلا أن تلك القضايا بعناوينها المهيبة اذا لم تترجم إلى واقع يضيف شيئاً ايجابياً ونافعاً إلى حياة الناس، فإنها تفقد رنينها وجدواها، وتتحول إلى ضجيج قاهري بامتياز، يحتفي به المثقفون ويلوكونه في منتدياتهم، التي يتحدثون فيها إلى انفسهم.صحيح أن تعاظم هموم الناس من سمات العالم الثالث، لكن يظل هناك فرق حتى في العالم الثالث بين مجتمعات تعشش فيها تلك الهموم وتستوطن، وربما تتزايد بمضي الوقت، وأخرى لم تفقد الأمل في التغلب عليها، وثالثة تدفن رؤوسها في الرمال مدعية بأن “كله تمام”، وأنها تعيش “أزهى” عصورها.احتفظ بحزمة خطابات كنت قد تلقيتها في اعقاب نشر مقالة لي كان عنوانها “اللا معقول في بر مصر” (31/10/2006) تحدثت فيها عن بعض صور المعاناة التي تثقل كاهل المواطن المصري. وقلت فيها إن مختلف شواهد الواقع تدل على أن المواطن المصري العادي اصبح في خطر يهدد آدميته بل وحياته أيضاً. وأضفت أنه “حين يصبح المواطن في خطر فإن الوطن ذاته يغدو في خطر. وهو ما يسوغ لي أن اقول إن ما يحدث في مصر الآن يمثل تهديداً صريحاً لأمنها القومي”.بعد نشر تلك المقالة، تلقيت سيلاً من التعليقات التي احسبها تشكل مادة غنية جداً لتأليف كتاب عن “وصف مصر” في مستهل الألفية الثالثة. وأكثر ما لفت انتباهي في هذه الرسائل أن الأحوال المعيشية تضغط بقسوة على شرائح واسعة من الناس، على نحو جعلهم غير مهيئين لاستقبال أي “إرسال” سياسي، من ذلك القبيل الذي تتغذى به ولا تكف عن بثه شرائح النخبة. وذلك الضغط القاسي ناتج عن تحالف الثلاثي المتمثل في الفقر وتدهور الخدمات والفساد. وأخطر ما عبرت عنه تلك الرسائل أن كاتبيها فقدوا الأمل في امكانية الخلاص من اظفار وانياب ذلك التحالف البائس، بعدما اكتشفوا أن احوالهم تسوء يوماً بعد يوم. فدخولهم تراجعت في ظل الغلاء وبطالة الأبناء. ولم تعد المدارس تعلم، ولا المستشفيات تعالج، ناهيك عن معاناتهم من المياه الملوثة والأغذية المسرطنة.(3) الكثير مما يشكو منه المواطن العادي، أصَّله وتقصي جذوره تقرير “الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية”، الذي صدر في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، عن مركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. إذ سجل في بعض فصوله ملاحظات مهمة على أزمة التنمية الاقتصادية في مصر، من بينها ما يلى:أن متوسط معدل التضخم وصل في عام 2006 إلى 11،7% (طبقاً لبيانات وزارة التنمية الاقتصادية والبنك المركزي وجهاز الإحصاء). وهذه النسبة إذا خصمت من معدل النمو في الناتج المحلي الاجمالي بالأسعار الجارية (البالغ 14،7%)، فإن المعدل الحقيقي للنمو في عام 2006 يصبح 3% فقط، وليس 6،9% كما ذكرت بعض التقارير الرسمية.إن معدل البطالة حسب البيانات الرسمية، ومن واقع النشرة الاحصائية للبنك المركزي كان قد بلغ نحو 8،1% من قوة العمل في نهاية عهد حكومة الدكتور الجنزوري (98-99) وارتفع إلى 10،3% إلى نهاية عهد الدكتور عاطف عبيد، قبل أن يرتفع مجدداً في عهد الدكتور نظيف الحالية إلى 11،9%.أن ثمة خللاً جسيماً في هيكل الأجور. فالحد الأدنى الرسمي للأجور بكل الإضافات يقل عن 20 دولاراً في الشهر، في حين أن الحد الأدنى للأجر في بلد عربي مثل الجزائر يبلغ 167 دولاراً شهرياً. إي 8،5 ضعفاً بالمقارنة مع نظيره المصري، رغم أن متوسط نصيب الفرد من الدخل في الجزائر يبلغ مرة ونصفاً فقط إذا قورن بنظيره في مصر.طبقاً لتقارير البنك الدولي عن مؤشرات التنمية في عام ،2006 فإن متوسط أجر العامل في قطاع الصناعات التحويلية في مصر كان يبلغ 2210 دولارات في الفترة من عام 80 إلى 1984 في حين أن انتاجيته في العام آنذاك قدرت بنحو 3691 دولاراً، أما في الفترة من 95 إلى 99 فإن متوسط دخل العامل انخفض نتيجة لارتفاع الأسعار إلى 1863 دولاراً في العام، في الوقت الذي ارتفعت فيه انتاجيته إلى 5976 دولاراً.إن افقر 10% من سكان مصر، أي نحو 2.7 مليون نسمة، حصلوا عام 2005 على 7.3 % من الدخل أي نحو 3.1دولار للفرد يومياً. وهو ما يعني أن من يعيشون بأقل من دولار واحد للفرد لن يقلوا عن 5.3 مليون نسمة، فى حين ان من يعيشون بأقل من دولارين للفرد يقدر عددهم بنحو 5.32 مليون نسمة. أما اغنى 10% من السكان. فإن الفرد منهم يعيش في المتوسط بمعدل 11 دولاراً يومياً.إن العجز في الميزان التجاري يتزايد بمعدلات مقلقة، رغم الارتفاع الكبير في اسعار وعائدات صادرات سعر النفط والغاز. فطبقاً للنشرة الاحصائية للبنك المركزي، فإن العجز وصل الى 12مليار دولار في العام المالي 2005-2006 مقارناً بنحو 4.10مليار دولار في العام الذي سبقه، و8.7 مليار في عام 2003-2004.إن الدين الداخلي تجاوز حدود الأمان وأصبح يمثل قنبلة موقوتة، يمكن أن تهز الاستقرار الاقتصادي بعنف إذا لم تتم السيطرة عليه. إذ دأبت الحكومة على الاقتراض الداخلي، لتمويل عجز الميزانية، حتى وصل إجمالي الدين في نهاية يونيو 2006 إلى 5593 مليار جنيه، بما يعني أنه ارتفع خلال عامين بمقدار 6.158 مليار جنيه، وهي اكبر زيادة في تاريخ الدين، تتم خلال تلك المدة القصيرة.(4) بقيت عندي ثلاث مسائل: الأولى أن مجلس الوزراء المصري كان قد أقر في عام ،1997 “وثيقة مصر في القرن الواحد والعشرين”، التي أريد لها أن تكون مرجعاً استرشادياً لوضع خطط التنمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وحددت الوثيقة اهدافاً بذاتها يتعين تحقيقها في القرن الجديد. لتجنيب المجتمع المصري الاختناقات والازمات المتوقعة. وقد تراوحت تلك الأهداف بين الدعوة إلى الخروج من الوادي القديم، عن طريق توسيع الرقعة السكانية ومد العمران إلى سيناء وجنوب الوادي، بما يؤدي إلى الاستفادة من البنية الأساسية التي انفق عليها 300 مليار جنيه، لاستصلاح حوالي مليون فدان، وصولاً إلى وضع خطط التنمية البشرية ودعم مؤسسات المجتمع المدني. هذه الوثيقة طويت صفحاتها وجمدت افكارها ومشروعاتها، ثم سقطت من الذاكرة، حين ذهبت الحكومة التي اعدتها (في عام 99). وعلمت أن أحد وزراء الحكومة الجديدة عوتب لأنه اشار إليها في أحد الاجتماعات!المسألة الثانية أن التنمية الحقيقية في أي مجتمع لا تقاس فقط بمدلولاتها الرقمية، وإنما بما يترتب عليها من زيادة في دخول الشرائح الفقيرة والوسيطة، بما يضيق من الفجوة بين طبقات المجتمع. حيث لا قيمة لتنمية يصب عائدها في صالح شريحة محدودة من الناس، وتؤدي إلى توسيع الفجوة وتعميقها. وتلك التنمية التي ننشدها لا تتحقق إلا في ظل سياسية انتاجية، زراعية وصناعية، تشغل عمالا وتفتح بيوتا وتخفف من وطأة البطالة المتفشية. ومن أسف أن قضية بهذه الأهمية لا تلقى ما تستحقه من اهتمام من جانب المثقفين والاعلاميين. في حين أن سياسة الحكومة لا تعول كثيرا على قضية الإنتاج، وتراهن على التحرك في الجزء المالي والنقدي، بما يقوي ثقافة المضاربة في مجالي العقارات والبورصة. وذلك توجه “ينمي” دخول القادرين ولا يخدم تنمية المجتمع.المسألة الثالثة، أن خطاب المثقفين والإعلاميين في مصر اصبح يتحرك على إيقاع أجندة السلطة وخطابها، وليس اهتداء بمصالح المجتمع العليا. فالتعديلات الدستورية اقترحها الرئيس على مجلس الشعب، وهذه تحولت موضوعاً احتل مقدمة الحوار الوطني في مختلف وسائل الإعلام، الأمر الذي جذب المثقفين لكي يدلي كل واحد منهم بدلوه في الموضوع، الأمر الذي شغل الرأي العام بعناوين وملفات مقطوعة الصلة بهموم الناس الحياتية وأحلامهم المتواضعة. وتلقائيا تحول خطاب المثقفين والاعلام إلى صدى للسلطة، وتخلوا عن دورهم في التعبير عن ضمير المجتمع.نافسنا أهل بيزنطة. إذ ما برح المثقفون يتجادلون حول التنظير السياسي، ويتنافسون في الحديث خارج الموضوع الأكثر إلحاحاً، فى حين ان المواطن المصري دافع الضرائب يحلم بكوب ماء نظيف وفرصة عمل تجنبه مذلة البطالة والسؤال، وحد ادنى من الخدمات يحفظ له كرامته وإنسانيته.

No comments: