لساني أدركه الصمت॥وعيناي أمطرتا دموعا ।ليس عندي سوي قلبي وقلمي ، وتلك النفخة من روح الله ..……………………………تبدأ القصة هكذا:انتهت الجنازة إلى المقابر ..وقف يرمق الجثمان المتسربل بالكفن الأبيض ، يغيب رويدا في فم القبر الفاغر..وبالأسمنت يسدون الفم القبيح .إنه الآن متفرج ، غدا سيغدو بطل المشهد ..ولكن ماذا يدور خلف الجدران الصموت !!...............................القرار اتخذته منذ عامين وأكثر ، أن أكتب هذا المقال ، وأصارحكم بتغيرات الموت التي تحدث خلف جدران صموت . كتاب الطب الشرعي سيعطيني التفاصيل اللازمة ..لن يكلفني الأمر أكثر من أن أفتح مخزون الحزن وهو جاهز ، والخوف وهو حاضر ، والحيرة وهي طاغية ...برغم هذا تأخرت ، برغم هذا ترددت . ما أتعس المعرفة وأسعد الغفلة ‼ ، والحقائق تعلن عن نفسها، طال الوقت أو قصر ، تخلع اللثام ، ليسفر وجه الموت بحقيقته ، بابتسامته الماجنة وعينيه الفارغتين .أعوام أو أيام وأغادر هذا العالم القاسي . أيام كالأعوام ، أو أعوام كالأيام ، بعدها أصبح ميتا ..ويتساوى كل شيء . يقترب طرف المجرة القريب من طرفها البعيد . تهاجم أنجولا أمريكا !!، تهزم أوغندا اليابان !!. يسكن البشر المشترى أو يعودون لحياة الكهف . لماذا يهتم العدم بهذه الأخبار ! .أموت !! ، أتحلل !! ، أتلاشى !! ، اختفي !! ، أصبح لا شيء بعد أن كنت كل شيء . تذهب ذكرياتي ، يختفي أصدقائي ، في ذمة الله أحلامي ، في ذمة الله آمالي ، آلامي وأيامي ، الطفل النحيل الذي كنته ، كراريس أشعاري ، طريقي إلى المدرسة ، ملمس الهواء البارد لوجهي ، رائحة الصباح الباكر ، الفتاة السمراء التي كنت ألقاها كل صباح في طريقي للمدرسة ، ونظراتنا المتبادلة تلون صباحي ، لم أكن أعرف أن زميلتها الشقراء اللعوب لاحظت لغة العيون ، بعدها بدأت منافسة نسائية صغيرة ، وكلمات غزل قالتها لي على مسمع من زميلتها ، كيف أحمر وجهي من المفاجأة !! ، وكيف أوشكت صغيرتي على البكاء ، أين ذهب هذا كله ؟ ، وأين تراهما الآن !.بل أين ستكون قبورنا ؟ ، وإذا كنا سنموت فلماذا نحب ؟ ، وإذا كنا نحب فلماذا نموت ؟ .نحن ذرات غبار ، أوراق شجر يحملها الهواء ، تراب مما يملأ الشوارع ، لا أحد يدري متى يذهب . لا أحد يعرف أين يذهب ! ، نلتقي ، نفترق ، نتعارف ، نتحاب ، نجيء هنا ، نروح هناك .............سهرات الخميس المتأخرة أين ذهبت ؟ ، الشوارع المبتلة بالندى ، الهواء الذي كنت أتسلى بتكثيفه ، البرد خارجي والدفء داخلي ، العشق طريقي والحزن رفيقي . كل هذا عدم ، كل هذا هباء . الحقيقة الوحيدة أنني سأموت ، أننا سنموت . هذه ليست موعظة وإن بدت كذلك ، إنها حقيقة ‼ ..فاصل زمني يفصلنا عن اللحظة الآتية ، لحظة الموت . يمكنني أن أصف لكم كيف سأبدو لحظة الموت : شحوب فاتر ، وتغضن لا يكاد يرى ، وانطفاء لا يكاد يحس ، جسدي يفقد حرارته . أنا جماد !! ، لماذا لا تصدقون أنني جماد !! ، في اول ست ساعات يفقد جسدي درجة ونصف كل ساعة ، ثم درجة كل ست ساعات حتى يصل لدرجة حرارة الغرفة خلال أثني عشر ساعة . يغسلوني ، يطرحوني ، يقلبوني ، وأنا ساكن بلا حراك ، مثل دمية منكفئة على وجهها ، يكفنونني دون أن أحس بدفء ، يحملونني دون أن أشعر براحة ، القبر مفغور كوحش، في القبر عتمة ، وشمول صمت ، وديمومة سكون . يغلقون القبر ، يرحلون إلى حيث لا أدري ، ثم أبدأ رحلتي الأبدية لألتحق بالأرض . يتجمع الدم ، ترتخي عضلاتي ، تتمدد الأوعية ، تتصلب عضلات الوجه ، الرقبة ، الجذع واليدين ، يتصلب جسدي كله ثم يرتخي بعد يوم .تتكاثر البكتريا في أمعائي ، تغزو جسدي كله ، تهضمني ، وتملأ الروائح الكريهة القبر . يتلون جلد البطن ، أخضر اللون ، لا بهجة فيه ، يتغير لون الوجه ، رخامي لا حياة فيه ، والرغوة السوداء تتجمع عند شفتي المتآكلتين ، تجحظ عيناي ، يخرج لساني بسبب ضغط الغازات ، تتجمع الغازات تحت الجلد في فقاقيع عملاقة وتتقشر البشرة ، بعد أسبوع تظهر عضلاتي التي تحولت لعجينة .ينفجر بطني ، أحشائي الداخلية تصبح عجينة خضراء تسقط على الأرض ، وليمة حافلة لحشرات ذاهبة آتية . في خلال ستة شهور لا يتبقى مني سوى عظام وبعض الغضاريف ، ثم أصبح هيكلا عظميا نظيفا خلال عام !!. وبينما أنا في القبر تظل السماء زرقاء ، وتسير السيارات في الطرقات ، ويتعالى ضجيج المارة وباعة الصحف .……………….. الحمد لله . رضيت ..............………حدثني الموت أن الركض خلف الدنيا سراب .حدثني الموت أن ( الجمع ) حماقة و( القسمة) عدل و( الضرب ) جنون حدثني الموت أن الناس أقرب إلى بعضهم البعض مما يظنون ..حدثني الموت أن التعالي أضحوكة ، والكبرياء أكذوبة ، والطغاة مساكين .وقال لي الموت : لا تنظر لقصورهم وانظر إلى قبورهم .وقال لي الموت أيضا : كلكم عندي سواسية ، أنا ملك عادل ‼ .
المقال للدكتور أيمن الجندي